فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها المذاهب العلمية! وهي أبعد ما تكون عن العلم؛ بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة..
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله؛ ويجادلون في وجوده سبحانه وينكرون هذا الوجود.
ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته، بلا خالق، وبلا مدبر، وبلا موجه.. يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية! كذلك، ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس، والتي لا تنفصل عنه بحال.. علمية.. هي وحدها العلمية!
وعدم الشعور بوجود الله سبحانه، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النّكدة. كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحًا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة:
{ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}.
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء، وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابًا هامسًا وجاهرًا، باطنًا وظاهرًا، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار.
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته؛ وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره؛ كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه، وهي موافقات لا تحصى.. إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري، كما ترفضه الفطرة من أعماقها، وكلما توغل العلم في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته؛ رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده؛ واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه.. هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته. قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجئ إلا أخيرا!
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده. كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة، وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا: كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا: يقول عالم الأحياء والنبات رسل تشارلز إرنست الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا: لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة، وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات، ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين، ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية.
وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها.
إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها، وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق، ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيمانًا راسخا.
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة. إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة، والمنطق السائد في بحثه هو منطق العلم الحديث: بكل خصائصه لا منطق الإلهام الفطري، ولا منطق الحس الديني، ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري، كما يقررها الحس الديني. ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها: أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا!
والذين يجادلون في الله مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل، وعن منطق الكون.. أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا.. إنهم العُمْي الذين يقول الله تعالى فيهم {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} وإذا كانت هذه حقيقتهم؛ فإن ما ينشئونه من مذاهب علمية! اجتماعية وسياسية واقتصادية؛ وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة والإنسانية والتاريخ الإنساني؛ يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط، صادر عن أعمى، معطل الحواس الأخرى، محجوبًا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعًا على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها، وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئًا؛ فضلًا على أن يكيف نظرته، ويقيم منهج حياته، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلًا!
إن هذه قضية إيمانية اعتقادية، وليست قضية رأي وفكر! إن الذي يقيم تفكيره، ويقيم مذهبه في الحياة، ويقيم نظام حياته كذلك، على أساس أن هذا الكون المادي هو منشيء ذاته، ومنشيء الإنسان أيضا.. إنما يخطئ في قاعدة الفكرة والمذهب والنظام؛ فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير؛ ولا يمكن أن تلتحم في جزيئة واحدة مع حياة مسلم، يقيم اعتقاده وتصوره، ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره.
ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى الاشتراكية العلمية منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء! ويصبح الأخذ بما يسمى الاشتراكية العلمية وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء انظمتها عدولًا جذريًا عن الإسلام: اعتقادًا وتصورًا ثم منهجا ونظاما. حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك الاشتراكية العلمية واحترام العقيدة في الله بتاتًا، ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والاسلام، وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها..
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان؛ إما أن يتخذوا الإسلام دينًا، وإما ان يتخذوا المادية دينًا. فإذا اتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا الاشتراكية العلمية المنبثقة من الفلسفة المادية، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه، نظاما، وعلى الناس أن تختار.. إما الإسلام، وإما المادية، منذ الابتداء!
إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير. إنما هو نظام قائم على عقيدة.. كما أن الاشتراكية العلمية بهذا الاصطلاح ليست قائمة على هواء، إنما هي منبثقة انبثاقًا طبيعيا من المذهب المادي الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر اصلا، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي، ومن ثَمَّ ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى الاشتراكية العلمية بكل تطبيقاتها!
ولابد من الاختيار بينهما، ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار!!!. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} قال: أجل معلوم، وفي قوله: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} قال: لا مستأخر بعده.
وأخرج ابن جرير عن الزهري رضي الله عنه في قوله: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} قال: نرى أنه إذا حضر أجله، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدم، وأما ما لم يحضر أجله، فإن الله يؤخر ما شاء ويقدم ما شاء.
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}
أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} قال: القرآن.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن جرير في قوله: {لو ما تأتينا بالملائكة} قال: ما بين ذلك إلى قوله: {ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء} قال وهذا من التقديم والتأخير {فظلوا فيه يعرجون} أي فظلت الملائكة تعرج، فنظروا إليه {لقالوا إنما سكرت أبصارنا}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق} قال بالرسالة والعذاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وما كانوا إذًا منظرين} قال: وما كانوا لو تنزلت الملائكة بمنظرين من أن يعذبوا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)}
قوله تعالى: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ}:
فيه أوجه، أحدُها:- وهو الظاهرُ- أنها واوُ الحالِ، ثم لك اعتباران، أحدُهما: أن تجعل الحالَ وحدَها الجارَّ، ويرتفع {كتابٌ} به فاعلًا، والثاني: أن تجعلَ الجارَّ خبرًا مقدمًا، و{كتاب} مبتدأ والجملةُ حالٌ، وهذه الحالُ لازمةٌ.
الثاني: أنَّ الواوَ مزيدةٌ، وأيَّد هذا قولَه بقراءة ابن أبي عبلة {إلا لها} بإسقاطِها، والزيادةُ ليسَتْ بالسهلةِ.
الثالث: أنَّ الواوَ داخِلةٌ على الجملةِ الواقعة صفةً تأكيدًا، قال الزمخشري: والجملةُ واقعةٌ صفةً لقرية، والقياسُ أن لا تتوسطَ هذه الواوُ بينهما كما في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208]، وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوق الصفة بالموصوف، كما تقول: وجاءني زيد عليه يوبُه، وجاءني وعليه ثوبُه، وقد تَبِعَ الزمخشريُّ في ذلك أبو البقاء تعالى: وقد سبق له ذلك أيضًا في البقرة عند قوله تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الآية: 216].
قال الشيخ: ولا نَعْلَمُ أحدًا قاله من النحويين، وفي محفوظي أنَّ ابنَ جني سَبَقهما إلى ذلك. ثم قال الشيخ: وهو مبنيٌّ على جوازِ أنَّ ما بعد إلا {يكون} صفةً، وقد مَنَعُوا ذلك. قال الأخفش: لا يُفْصَل بين الصفةِ والموصوفِ بـ: إلا. ثم قال: وأمَّا نحوُ: ما جاءني رجلٌ إلا راكبٌ على تقدير: إلا رجلٌ راكب، وفيه قُبْحٌ لِجَعْلِكَ الصفةَ كالاسم، وقال أبو عليّ: تقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا قائمًا، قائمًا حال، ولا تقول: إلا قائمٍ، لأنَّ إلاَّ لا تعترضُ بين الصفةِ والموصوفِ، وقال ابنُ مالك-وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله ما مررت بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه: إنَّ الجملة بعد إلا صفةٌ لـ: {أحد}: إنه مذهبٌ لا يُعرف لبصريٍّ ولا كوفيٍّ، فلا يُلتفتُ إليه، وأَبْطَلَ قولَه: إن الواوَ توسَّطت لتأكيدِ لُصوقِ الصفةِ بالموصوف.
قلت: قولُ الزمخشريُّ قويٌّ من حيث القياسُ، فإنَّ الصفةَ كالحال في المعنى، وإن كان بينهما فرقٌ مِنْ بعضِ الوجوهِ، فكما أن الواوُ تدخلُ على الجملةِ الواقعةِ حالًا كذلك تَدْخلُ عليها واقعةً صفةً، ويقوِّيه أيضًا ما نظَّره به من الآيةِ الأخرى في قوله: {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} ويُقَوِّيه أيضًا قراءةُ ابن أبي عبلة المتقدمةُ.
وقال منذر بن سعيد: هذه الواوُ هي التي تعطي أنَّ الحالةَ التي بعدها في اللفظ هي في الزمنِ قبل الحالةِ التي قبل الواوِ، ومنه قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73].
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
قوله تعالى: {مِنْ أُمَّةٍ} فاعلُ {تَسْبِقُ}، و{مِنْ} مزيدةٌ للتأكيد، وحُمِل على لفظِ {أمَّة} في قوله: {أجلَها} فأفردَ وأنَّثَ، وعلى معناها في قوله: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} فَجَمَعَ وَذَكَّرَ، وحَذَفَ متعلِّق {يَسْتأخِرُون}، تقديرُه: عنه للدلالةِ عليه، ولوقوعِه فاصلةً.
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}
قوله تعالى: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} العامَّةُ على {نُزِّل} مشدَّدًا مبنيًّا للمفعول، وزيدُ بنُ علي {نَزَلَ} مخففًا مبنيًا للفاعل.
قوله تعالى: {لَّوْ مَا} حرفُ تحضيضٍ كهَلاَّ، وتكون أيضًا حرفَ امتناعٍ لوجود، وذلك كما أنَّ لولا مترددةٌ بين هذين المعنيين، وقد عُرِف الفرقُ بينهما: وهو أنَّ التحضيضيَّةَ لا يليها إلا الفعلُ ظاهرًا أو مضمرًا كقولِهِ:
لولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا

والامتناعيةُ لا يليها إلا الأسماءُ لفظًا أو تقديرًا عند البصريين، وقولُه:
ولولا يَحْسَبُون الحِلْمَ عَجْزًا ** لَمَا عَدِمَ المُسِيْئُون احتمالي

مؤولٌ خلافًا للكوفيين. فمِنْ مجئ {لَوْما} حرفَ امتناعٍ قولُه:
لَوْما الحياءُ ولوما الدينُ عِبْتُكما ** ببعضِ ما فيكما إذ عِبْتُما عَوَري

واخْتُلِف فيها: هل هي بسيطةٌ أم مركبةٌ؟ فقال الزمخشري: لو رُكِّبَتْ مع لا ومع ما لمعنيين، وأمَّا هل فلم تُرَكَّب إلا مع لا وحدَها للتحضيض، واخْتُلِف أيضًا في {لوما}: هل هي أصلٌ بنفسِها أو فرعٌ على لولا؟ وأن الميمَ مبدلةٌ من اللامِ كقولهم: خالَلْتُه وخالَمْته فهو خِلِّي وخِلْمي، أي: صديقي، وقالوا: استولى عليَّ كذا، واستومَى عليه بمعنى؟ خلاف مشهور، وهذه الجملةُ من التحضيضِ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها.
قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة} قرأ أبو بكر: {ما نُنَزِّل} بضمِّ التاء وفتحِ النونِ والزايِ مشددةً مبنيًا للمفعول، {الملائكةُ} مرفوعًا لقيامِه مَقامَ فاعلِه، وهو موافقٌ لقولِه: {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلًا} [الفرقان: 25]، ولأنها لا تُنَزَّلُ إلا بأمرٍ من الله، فغيرُها هو المُنَزِّل لها وهو الله تعالى.
وقرأ الأخَوان وحفصٌ بضم النون وفتح الثانية وكَسْرِ الزاي مشددةً مبنيًا للفاعل المعَظَّم، وهو الباري تعالى، {الملائكةَ} نصبًا مفعولًا بها، وهو موافِقٌ لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} [الأنعام: 111]، ويناسِبُ قولَه قبل ذلك {وَمَآ أَهْلَكْنَا} [الحجر: 4]، وقولُه بعده {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9]، وما بعده من ألفاظِ التعظيمِ، والباقون من السبعةِ {ما تَنَزَّلُ} بفتح التاء والنون والزايِ مشددةً، و{الملائكةُ} مرفوعةً على الفاعلية، والأصل: تَتَنَزَّل بتاءين، فَحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم تقريرُه في {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، ونحوه، وهو موافقٌ لقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} [القدر: 4].
وقرأ زيدُ بنُ عليّ {ما نَزَلَ} مخفَّفًا مبنيًا للفاعل، {الملائكة} مرفوعةً بالفاعلية، وهو كقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193].
قوله: {إِلاَّ بالحق} يجوز تعلُّق بالفعلِ قبله، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ أو المفعولِ، أي: ملتبسين بالحق، ودعله الزمخشريُّ نعتًا لمصدر محذوف، أي: تَنَزُّلًا ملتبسًا بالحقِّ.
قوله: {إَذَنْ} قال الزمخشري: {إذن} حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ لأنَّها جوابٌ لهم، وجزاءُ الشرطِ مقدرٌ، تقديرُه: ولو نَزَّلْنا الملائكة ما كانوا مُنْظرين ومات أُخِّر عذابُهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
الآجال معلومة، والأحوال مقسومة؛ والمشيئة في الكائنات ماضية، ولا تخفى على الحق خافيه.
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}
الجنون معنى يوجب إسناد ما ينكشف للعقلاء من التحصيل على صاحبه، فلمَّا كانوا بوصف التباس الحقائق عليهم فهم أَوْلَى بما وصوفه به، فهم كان في المَثَل: رَمَتْنِي بِدَاْئِها وانْسَلَّت.
{لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)}
اقترحوا عليه الإتيان بالملائكة بعد ما أزيحت العلة عليهم بما أَيَّد به معجزاته، فيتوجب اللَّوْمُ عليهم لسوءِ أَدَبِهم، وأخبر الحقُّ- سبحانه- أنه أجرى عادته أنه إذا أظهر الملائكةَ لأبصارِ بني آدم فيكون ذلك عند استبصارهم؛ لأنه تصير المعرفة ضرورية، وفي المعلوم أنه لم يكن ذلك الوقتُ أَوَانَ هَلاَكِهم؛ لِعِلْمِه أنَّ في أصلابهم مَنْ يُؤْمِنُ بالله سبحانه في المستأنف. اهـ.